الموقف الادبي_ دمشق اتحاد الكتاب العرب: 1974 العدد:
حول " الأيديولوجية الحيوية "
الدليل النظري والمسائل التطبيقية .
بقلم : جلال فاروق
الشريف
نشر رائق
النقري الجزء الثاني من الدليل النظري لما أسماه " الأيديولوجية الحيوية " تحت
عنوان " الإنسان شكل " وكان الجزء الأول من الدليل النظري قد صدر قبل أربع سنوات
(1970) وخلال هذه السنوات الأربع وبين الجزئين الأول والثاني من الدليل النظري أصدر
كتابين حول " المفهوم الحيوي للمسألة القومية " تناول في أحدها " هوية القومية
العربية " (1971) وفي الآخر " هوية القومية الصهيونية " (1972) وفي الجزء الثاني
الجديد من الدليل النظري للأيديولوجية الحيوية يعلق رائق النقري عن كتاب تحت الطبع
أسماه " دحض المادية الديالكتيكية من خلال القانون الحيوي للكون " . ومشروعات رائق
النقري الخمسة بما فيها ما هو تحت الطبع يصح بأن توصف بأنها مغامرة فكرية جريئة ،
ويكفي مجرد الإطلاع على عناوين هذه المشروعات ليحكم عليها أي قارئ مثل هذا الحكم .
بل قد يذهب القارئ إلى أن يحكم عليها بما هو أكثر من ذلك . وأقل ما في هذا الحكم ،
أنه لا يحمل هذه المشروعات على محمل الجد . فالمغامرات الفكرية الصرف في الانتاج
عندنا ، معدومة أو شبه معدومة والنتاج الفكري المحض لا وجود له تقريباً . ولا يقرر
أحداً شيئاً جديداً إذا قال أن الفكر العربي المعاصر كان وما يزال فكراً سياسياً
يخلو من محاولات التنظير الأصلية الجادة ، وإن أية محاولة من هذا النوع لا تتوقع
عادة من كاتب ناشئ وأن المغامرة المفضلة عند الكتاب الناشئين وغير الناشئين هي في
مجال الشعر والقصة . ولئن كان مبرراً في أزمنة القلق الاجتماعي أن يغدو حديث
الانفعال والحيرة والتمزق والضياع هو الحديث المحبب إلى الكاتب والقارئ ، على حد
سواء ، إلا أن الفكر الرصين القادر على التحليل والتنظير يظل هو المرساة الأخيرة لا
لتهدئة الانفعال وحسب وإنما لشق الطريق للعمل والتغيير .
من هذا المنظور تبدو مغامرة رائق النقري في " الأيديولوجية الحيوية" مغامرة جريئة
بالفعل، يغتفر أن لا تحتمل على محمل الجد . إلا أن الإصرار على القيام بها والتصميم
على الاستمرار فيها ، خلال أربع سنوات لا يمكن إلا أن يلفت النظر إليها ويفرض
التوقف عندها . إنها تظل جديرة بالإطلاع وبمحاولات المناقشة ، على الأقل كما يطلع
زيادة على مؤلف أدبي وكما تناقش أية دراسة أو رواية أو مجموعة قصصية أو شعرية . فما
هي هذه "الأيديولوجية الحيوية .. ؟ " .
سؤال قد لا يكون المؤلف نفسه قد انتهى من تحديده واستكمل شروط الإجابة عنه ، ما دام
هو نفسه يعلن أن ثمة مشروعات أخرى حول هذه " الأيديولوجية " في طريقها إلى الظهور ،
ولكن المشروعات الأربعة التي ظهرت تكفي لاستخلاص بعض الخطوط العامة
.
ما هي "
الأيديولوجية الحيوية " ؟
يهدي رائق النقري " الأيديولوجية الحيوية " إلى كل إنسان يعيش مرارة السؤال عن معنى
وأبعاد وجوده " ويعد ما يقدمه نظرية " لتكون دليلاً متواضعاً للحرية " فالمغامرة
إذن جريئة حقاً لأنها مشروع رؤية الوجود كله ( الطبيعة ، الإنسان ، المجتمع )
وبتعبير آخر هي مشروع فلسفة . بل ما هو أكثر من ذلك " فلسفة علمية " لأن رائق
النقري ينطلق من مجموعة قراءاته العلمية ، لاسيما آخر المكتشفات والمحاولات في نطاق
العلم لتفسير الكون . إنه في الصفحات الأولى ينطلق من ( أنشتاين ) ومن أستاذه (
مينكوسكي ) ومن العالم البيولوجي (فون يوكسكل) . ويكثر رائق النقري من الاستشهاد
بأسماء علماء في الرياضيات والعلوم الفيزيائية والطبيعية لا يعرفها إلا المختصون
حتى ليعجب القارئ من أين استطاع أن يحشد هذه الأسماء كلها .
فما هي هذه الفلسفة ؟ وهل هي علمية حقاً ؟ وعلى الأصح ما هي هذه الأيديولوجية ؟ (
يحرص المؤلف على كلمة أيديولوجية لأنه يقصد عقيدة للعمل ) .
ينطلق المؤلف من التساؤل الأساسي : لماذا نعيش ؟ فالحياة بحاجة إلى تفسير وتبرير .
ويستبعد المؤلف نوعين من الإجابة الجاهزة كما يقول . النظرية الدينية التقليدية
والنظرية اللادينية . فالأيديولوجية الحيوية شيء غير هذين الأثنين ، وعلى الأصح هي
بديل لهما . إنها بديل للفكر الغيبي السائد وللفكر العلمي المعروف على حد سواء .
وهذا ما تطمح إليه "الأيديولوجية الحيوية " فما هي هذه النظرة أو هذه النظرية
الجديدة ؟
الحياة لا تفنى وإنما تتحول من شكل إلى آخر ... كتلة المادة إلى طاقة والطاقة إلى
مادة "والخاصية التي نسميها كتلة ما هي إلا طاقة مركزة" (أينشتاين ) والحياة ليست "
كائناً وإنما هي وصف لعملية هي الخلق وتتجلى الحياة في جميع الكائنات " وليست هذه
الكائنات هي الكائنات الحية وحسب بل تشمل الكائن غير الحي " فإذا قبلنا بكلمة
كائنات حية وكانت صفاتها التنبه والانفعال والتحرك والتجدد والتكاثر ، فإننا نجد
هذه الصفات لدى ما يسمى الجمادات ..." والكائنات كلها شكل من أشكال إرادة الحياة .
ولكل شكل أو نوع قانون خاص أرادته الحياة ، أو طريقة لوجوده وحركته . ما هي إرادة
الحياة ؟ " ببساطة أن إرادة الحياة هي الحياة .. " وجدت الكائنات لكي تحيا . ويحقق
الوجود حياته بتنفيذه إرادة الحياة وإرادة الحياة للكائنات هي الحرية " إنها شرط
تحقيق وجود الكائن وهي التي تصله بجوهر كينونته ، بالحياة ، الحرية " وما هي الحرية
؟ إنها ليست صفة للإرادة . إنها تمام عمل الكائن . فحياة الكائن تتحقق بتمام شرط
وجوده . الحرية . والحرية دعوة إلى مزيد من الالتصاق بشرط وجود الكائن ( محيطه )
والعبودية هي عدم توافر شرط وجود الكائن . وهي مفهوم نمطي . ويقصد بالنمطية " أنسنة
الأشياء وإرجاع المظاهر المختلفة كافة إلى قانون واحد " والتأثير النمطي هو انعكاس
وعي الإنسان لوجوده .. وكلما ازدادت وتعمقت تجربة الإنسان خف تأثير الأنماط وبدأ
تأثير العلم . ولما كان العقل الإنساني جزءاً من الحياة وليس كلاً ، ولهذا فإن
الجزء ليس بمقدوره أن يضع نفسه مكان الكل إنما يمكنه الكشف حسب قدرته على وعي أحداث
الكل وإن أية محاولة لحشر العقل في قضايا ثي أكبر من أبعاد وجوده تعتبر لاغية .
فالعقل الإنساني جزء من الحياة وليس كل الحياة ، ويمكنه بإمكانياته الكشف عن أحداث
الحياة ويطالبنا المؤلف بأن " لا نحشر عقلنا في أمور ليست من مهامه ..
؟؟
هكذا تنطلق "الأيديولوجية الحيوية " .. من المعطيات العلمية لتستخلص مقولة " الحياة
" ولتضع هذه المقولة في أبعاد تتجاوز "العقل " و " المادية الديالكتيكية " في آن
واحد . فالعقل قاصر على فهم الحياة لأنه جزء منها . والديالكتيك في الطبيعة " غير
شامل " والتناقض في الأصل لا يحدث إلا في الكائنات التي تعي معنى التناقض كالبشر
وبعض الحيوانات الراقية ، ويحدث الصراع نتيجة وعي لهذه التناقضات ... فالسالب
والموجب داخل الذرة ليسا في حالة صراع وما بينهما ليس تناقضاً وإنما اختلاف
في التكوين وفي الوظيفة والذرة مؤلفة منهما معاً ، ولا يمكن وجودها بدون أحدهما
وليس من الضرورة أن يكون في كائن آخر غير الذرة أشياء متضادة ... " وتذهب
الأيديولوجية الحيوية إلى نقض الداروينية " فالتنازع ليس ضرورة وإنما حالة .. وحركة
الكائنات العامة تتم وفق القانون الحيوي للكائنات " وهو أن كل كائن يتحرك وأن
الحركة تغير تركيبه والتركيب يؤدي إلى تغير الحركة " فكل كائن يتحرك إلى الحرية أو
العبودية حسب قوانينه الخاصة التي أرادتها الحياة وحركته تتناسب مع عمرانه ( بنيته
) الذي يتغير هو الآخر بتأثير حركته وكلما ازدادت هذه الحركة تقلصت مدة التركيب
ليتحول إلى تركيب آخر إما باتجاه الحرية أو العبودية . وكلما أبطأت الحركة ازدادت
المدة بين تحول التركيب إلى تركيب آخر ... " فالكون حركة . ولا انفصال بين الكائن
والحركة . وليست لهذا الكون صفة جوهرية مستقلة ثابتة سواء أكانت مادية أو روحية .
كما أن الكون ليس بحاجة إلى محرك لأنه عندما لا توجد حركة لا توجد كينونة .
والديالكتيك الهيغلي المثالي والماركسي المادي هما " تزوير للكون وافتراء على
التاريخ "!!
فالكون ليس حتمي الاتجاه في مسيرة وليس مطلق القيمة في أبعاده . والكائن لا يتمتع
بوجود جوهري وإنما هو حالة حيوية حركية . وما ينطبق على الكون ينطبق على المجتمع
فليس للتاريخ أدوار كما هو الأمر عند ماركس وهيغل واشينغلر وتوينبي وابن خلدون .
(نقض المادية التاريخية ) . والمجتمع حركة . لذلك فهو متغير التركيب . وهذا التغير
يتم حسب تأثير المجتمع وتأثره بكافة شروط صيرورته الحيوية وهي ثلاثة : الشرط العضوي
( الزمن ، الأرض ، السكان ) الشرط التنظيمي ( العمل ـ العلم ) الشرط الإبداعي :
(العقيدة ، الإدارة ، القائد ) وهذه الشروط تؤلف المجال الحيوي الاجتماعي وكل بند
من بنوده محصلة لكافة البنود الأخرى .
ما هو الإنسان إذن ؟
الكائن منطق
. والحياة منطق . والإنسان منطق المنطق . شكل .
ما معنى هذا
الكلام ؟
الكائن منطق
بمعنى أنه لما كان الكون طاقة ، حركة . فلا وجود لزمان مطلق أو مكان مطلق لأنهما من
نوعية واحدة ، لذلك فإن كل كائن له أبعاده التي تختلف عن أبعاد الكائن الآخر ، أي
أن له طريقة في التشكل خاصة به . وهذا ما يسمى " منطق " أو معايشة أو شكل ، والحياة
نوع من تفرد الوجود أي إبداع معين . والموت هو توقف هذا التفرد أو هذا الإبداع، أي
انعدام الوجود على هذا الشكل وليس على أي شكل آخر . ومنطق الحياة هو منطق التجدد .
والتجدد لا يكون تجدداً إذا كان تكراراً . والإبداع هو الذي يحدث أول مرة أي أنه
تفرد . فمنطق الحياة هو منطق تفرد الوجود . والكائن الإنساني هو الكائن الحي ولا
تطلق الصفة الإنسانية على كافة أشكال تواجدنا . إنما على الوجود المبدع منها فقط
لأن منطق الحياة هو منطق تفرد . والتفرد لا يتم إلا من خلال الإبداع . وتنتهي حالة
التفرد بانتهاء الإبداع . وتنتهي الحياة عندما ينتهي الإبداع . إن حالة المبدع ليست
حالة قائمة حتمية وإنما هي حالة احتمالية . والذي لا يصل إلى مرحلة الإبداع مرحلة
التفرد لا يكون إنساناً حياً ، فرداً وعندما يصبح أحدنا إنساناً فإنه يصبح فرداً .
والتفرد هو تحقيق شرط الوجود . التصاق بالمحيط بالفلك الإنساني عامة ، فلك الحياة
ومن لا يصل إلى مرحلة التفرد لا يصل إلى مرحلة الحياة ويبقى نقطة تافهة على الهامش
إذ عندما لا يكون بيننا اختلاف فمعنى ذلك أننا تكرار لنسخة واحدة . غير أن اعترافنا
بالفرد لا يتناقض مع نفي وجود ذات جوهرية . فالإنسان الفرد ليس صيغة ثابتة . ليس
وجوداً عينياً . إنه منطق . طريقة . وعظمة الحياة في أنها حركة، خلق ، إبداع دائم .
والكائن أو المنطق هو تمثيل لدرجة إبداعية معينة . فالدرجة الإنسانية هي المنطق .
وتميز "الأيديولوجية الحيوية " بين الشخص وبين الفرد . فالشخص هو معايشة تشخص
التراث الاجتماعي . وهذا التشخص يحدث حسب درجة إنسانية المعايشة وكلما كانت
المعايشة أكثر تفرداً فإن الشخص يصبح أقرب إلى أن يكون فرداً . فالشخص هو مشروع
تفرد قد يتحقق أو لا يتحقق . والتشخيص يمثل القصور الضياع في حين يمثل التفرد
الإبداع والعطاء .
ماذا نستطيع
أن نستخلص من هذا كله ؟
1.
على الرغم من أن
الأيديولوجية الحيوية تنكر وجود " ذات جوهرية " إلا أنها مع ذلك فلسفة فردية .
فالحياة تتجدد عن طريق الأفراد المتميزين أو المتفردين الذين يمثلون أعلى أشكال "
منطق الحياة " أو " معايشة الحياة " والتشخص هو "التماثل" أي وجود أشخاص غير
متميزين . إنها إذن تضع الفرد في قمة " الحياة " وتعده قائد"الإبداع " أي أنها في
النهاية تطرح مبدأ " النخبة " الذي ينطلق من الفرد ، وليس مبدأ " الطليعة "
الاشتراكي الذي ينطلق من الجماهير ومن الطبقة .
2.
تنفي "الأيديولوجية
الحيوية " التقدم الإنساني كحركة تطور اجتماعي صاعدة إلى الأمام لأنها تنفي وجود "
غائية " في الحياة . وتعد التقدم نتيجة لقدرة فردية " القائد" " الفرد" على معايشة
الحياة والالتصاق بقوانينها الحيوية . وهذا الفرد أو مجموعة أفراد هم الذين يقودون
تطور المجتمع . ولا تقدم "الأيديولوجية الحيوية " أي تفسير للتقدم الإنساني إلا على
هذا الشكل الفردي على الرغم من اعترافها بوجود المجتمع كسابق على وجود الفرد وعلى
الرغم من اعترافها بأن الفرد هو حصيلة معايشة القوانين الحيوية للمجتمع
.
3.
لا تفسر "الأيديولوجية
الحيوية " أسباب ظهور الأفراد المتميزين إلا بالقول أنهم أقدر على معايشة القوانين
الحيوية . أما كيف تتم هذه المعايشة والالتصاق بالمحيط الاجتماعي والإنساني أو كيف
يبرز هؤلاء الأفراد فلا يمكن اعتبار ما تقدمه "الأيديولوجية الحيوية " في هذا الصدد
سوى أنه نتيجة لدفقة الحياة نفسها ، هذه الدفقة المجهولة التي لا يعلم أحد كيف
تتحقق و متى تتحقق ؟
4.
على الرغم من اعتراف
"الأيديولوجية الحيوية " بقيمة العقل ودوره إلا أنها تعده جزءاً من كل ولا تسمح له
كجزء بالتدخل في الكل أي في محاولة فهم الحياة وتفسيرها . أي أنها تطالب العقل
بالتزام حدود معينة وتعترف بوجود مناطق محرمة عليه . فهي إذن تقر بوجود ما وراء
الطبيعة على الرغم من إنكارها للتقسيم التقليدي " مادة " و " روح " وعلى الرغم كذلك
من منطلقاتها العلمية بخاصة النظرية النسبية وآخر منجزات العلوم الطبيعية .
5.
تؤله "الأيديولوجية
الحيوية " الحياة والفرد المتميز كأعلى أشكال هذه الحياة . وهي على هذا الأساس
تتلاقى مع فلسفة " نيتشه " ومجمل الاتجاهات الحيوية في الفلسفة بخاصة " البرغسونية
" وتحاول تخطي هذه الاتجاهات عن طريق إعطاء الحياة مفهوماً أكثر شمولاً وأكثر علمية
.
المفهوم
الحيوي للمسألة القومية
تحت هذا
العنوان تحاول "الأيديولوجية الحيوية " تقديم تفسير للمسألة القومية وتتناول هويتين
الأولى هي " القومية العربية " والثانية هي " القومية الصهيونية " فما هوية القومية
العربية من وجهة نظر "الأيديولوجية الحيوية " ؟
تنطلق "الأيديولوجية الحيوية " من أولوية الوجود الاجتماعي على الوجود الفردي ، ومن
وجود أشكال اجتماعية متميزة تؤلف القومية العربية أحد هذه الأشكال وتحاول أن تقدم
تفسيراً لهذه القومية العربية . فما هو هذا التفسير ؟
1.
ترفض "الأيديولوجية
الحيوية " التفسيرات التي قدمها للقومية العربية كل من زكي الأرسوزي وميشيل عفلق
وساطع الحصري وتعد " كل ما فعلوه هو تطبيق النظريات القومية الألمانية الفرنسية
".
2.
القومية هي هوية المجتمع
الذي تميزه عن غيره وتقابل " الأنا " لدى الفرد . إنها كائن يتحرك لأنها ظاهرة
اجتماعية . فهي إذن ليست هوية جاهزة ولدت دفعة واحدة واستقرت في صفة مطلقة . إنما
تبدأ مرحلة المخاض كأية ظاهرة اجتماعية والمخاض حالة مستمرة تحرك الهوية القومية
وتؤدي إلى تغيرها وهذا التغيير يؤدي إلى تغير تركيبها . والهوية العامة للقومية
العربية بدأت تتضح منذ الألف الأول قبل الميلاد . وهذا التغير في الحركة نحو الشمول
كان أيضاً باتجاه الحرية لأنه استطاع أن يخلق قاعدة انطلقت منها أهم الحركات
العقائدية والحضارية في العالم كله .
3.
مخاض القومية العربية
أخذ في البدء " هويات جزئية " كالفرعونية والفينيقية والبابلية والآشورية ألخ ،
حاولت التبلور في مشاريع عقائد ، وقد أخفقت اليهودية في أن تكون مضموناً لهوية
القومية العربية لتعصبها وتقوقعها . وكانت المسيحية رد فعل عليها فظلت العقيدتان
بعيدتين عن احتواء هوية القومية العربية. ونجح الإسلام في ذلك . ثم تفتت هذه الهوية
بسبب تشعبها إلى اتجاهات ومذاهب .
4.
لم تستطع التجارب
الراهنة المعاصرة التي تتمثل في مجموع الحركات السياسية أن تتوصل إلى استيعاب هوية
القومية العربية في مخاضها الإتساعي لأنها لم تستطع صياغة دليلها النظري والتطبيقي
ويرجع هذا العجز إلى أنها "ليست وليدة تفاعل حيوي ذاتي في المجتمع العربي فهي حتى
الآن لم تتجاوز كونها ردة فعل أنجبت مشروعاً سياسياً لتوحيد أجزاء القارة العربية
كتب بلغة مجازية شاعرية ومشروعاً لإزالة سيطرة الأجنبي والتخلف ... وقد خلا المشروع
من إجابة واضحة لشكل المخاض الاجتماعي الذي سيغير بنية المجتمع العربي ... "
5.
المطروح الآن هو ضرورة
وجود أيديولوجيا توضح الهوية الفكرية والسلوكية للقومية العربية وتحدد أبعاد حركة
المجتمع الإنساني بشكل علمي يجعلنا قادرين على توجيه حركة مجتمعنا باتجاه إرادة
الحياة تسهم في تحرير العالم . والأيديولوجية الحيوية هي بداية حوار مسؤول يقود إلى
الوضوح والتبلور .
ويمكن بصدد
هوية القومية العربية كما طرحتها الأيديولوجية الحيوية تسجيل الملاحظات
التالية :
1.
إن تحليل ظاهرة نشوء
القومية العربية لا يحتاج إلى عودة معمقة إلى التاريخ القديم للمشرق العربي وحسب
وهو ما لم يتحقق حتى الآن ، وإنما يحتاج أيضاً إلى منهج علمي تاريخي بالدرجة الأولى
. والصفحات التي قدمتها " هوية القومية العربية " غير كافية
.
2.
على الرغم من رفض
الأيديولوجية الحيوية لنظرية اشنبغلر في دوائر الحضارة ولآراء توينيبي إلا أنها
تلتقي معها في أكثر من نقطة ، بخاصة توسيع إطار القومية العربية لتشمل حضارات
المشرق العربي القديمة كلها .
3.
على الرغم من أن حركة
القومية العربية المعاصرة لم تتبلور في أيديولوجية محددة تماماً إلا أن الفكر
العربي المعاصر التقدمي استطاع أن يطرح مقولات الوحدة العربية والحرية والاشتراكية
كمضمون أساسي لنظرية ثورية يتم على أساسها تحديث المجتمعات العربية
.
أما هوية
القومية الصهيونية فتتبع الأيديولوجية الحيوية في تحليلها المنهج نفسه الذي
استخدمته في تحليل هوية القومية العربية معتمدة على " القانون الحيوي للمجتمع
الإنساني " وتحاول العودة إلى الجذور التاريخية لهوية الصهيونية التي هي " هوية
عقائدية قبل أن تكون هوية قومية " وتعتبر كتاب هرتزل عن " الدولة اليهودية " هو
الأيديولوجيا الأساسية لحركة الهوية الصهيونية في حين لا تتوافر للقومية العربية
أيديولوجيا مماثلة .
ومن هذه
المقارنة يستخلص رائق النقري النتائج التالية :
1.
إن ما نحتاج إليه هو
إيجاد أيديولوجية علمية تستوعب جميع نشاطاتنا وتنهج الطرق أمامها ... أيديولوجية
لها من العمق والقوة بحيث تستطيع أن تقف في وجه الأيديولوجية الصهيونية
....
2.
" أهم متطلبات ولادة
الأيديولوجية هذه هو وعي ضرورتها ... ويمكن مع الثقة بالذات العربية وقدرتها على
الإبداع أن تخلق هذه الأيديولوجية ....
3.
إن أهداف الوحدة والحرية
لا تعدو أن تكون منطلقات وطنية وليست أيديولوجيا والاشتراكية ليست مذهباً يؤمن به
جميع العرب والفئات التي تنادي به كهدف مع الوحدة والحرية لا تأخذ الاشتراكية لديها
قيمة أكثر من كونها طريقة أكثر نجوعاً لتنظيم الاقتصاد وتقويته وتشيح النظر إن لم
تحارب الجانب الفلسفي المادي الديالكتيكي والتاريخ لهـــا
....
إن هذه
النتائج الثلاث تطرح مسألة أساسية هي الأيديولوجية ووعي هذه الضرورة . وبهذا الصدد
يمكن تسجيل الملاحظات التالية :
1.
من المسلم به أن
الأيديولوجيا ضرورة لا حركة ثورية على أن يفهم من هذه الأيديولوجيا النظرية التي
تكون بمثابة مرشد ودليل للعمل الثوري .
2.
تستخلص الأيديولوجيا من
استقراء حركة الواقع للمجتمع القومي والإنساني ولا يمكن أن تفرض عليه من فوق ، أنها
في هذه الحالة تفقد صفتها العلمية وتصبح عقيدة فلسفية أو مسلمات يقينية
.
3.
مع الاعتراف بأن حركة
القومية العربية لم تصبح له أيديولوجيا متكاملة إلا أن مقومات الوحدة العربية
والحرية والاشتراكية هي حصيلة تحليل علمي لواقع المجتمعات العربية وكل تطور باتجاه
ظهور أيديولوجيا متكاملة يجب أن ينطلق من هذه المقولات .
4.
تطرح "الأيديولوجية
الحيوية " نفسها كأيديولوجيا للقومية العربية متجاهلة الإنجاز الأساسي لحركة
القومية العربية المتمثلة في مقولات الوحدة والحرية والاشتراكية وبخاصة مقولة
الاشتراكية ، هذه المقولات العلمية والثورية التي يفترض أن تنطلق منها جميع محاولات
بناء أيديولوجيا لقضية الثورة العربية . وفي هذه النقطة بالذات تتجلى خطورة
الأيديولوجية الحيوية أنها لا تعترف بالإنجاز الأيديولوجي الهام المتمثل في هذه
المقولات بالذات وتضع في مواجهتها مقولتان هما : إرادة الحياة والحرية
.
*****
جاء في تعريف
"الأيديولوجية الحيوية " أنها تمثل "تحدياً مفاجئاً لكافة الفلسفات التي أعطت
تفسيراتها للإنسان " ( الإنسان شكل )
وبصدد " هوية
القومية العربية " تقول "الأيديولوجية الحيوية " : " لا يوجد أي تنظير علمي للمسألة
القومية ... ويأتي هذا الكتاب ليوضح من خلال منظار الأيديولوجية الحيوية العلمي
هوية القومية العربية أملاً في تعميق مسيرة الثورة العربية لتحقيق إرادة الحياة ..
الحرية ..
أما كتاب "
هوية القومية الصهيونية " فيقول عن نفسه أنه " يشكل انعطافاً أساسياً في تنظير
المسألة القومية وذلك من خلال تفسير حيوي علمي لهوية القومية الصهيونية ... ويتضمن
اقتراح صيغة ممكنة تعمق نضال طلائع الثورة العربية لتحقيق إرادة الحياة ... الحرية
...
ألا يمكن إذن
أن نصف الأيديولوجية الحيوية استناداً إلى ما تقدم أنها محاولة جريئة ما دامت تمثل
تحدياً لكافة الفلسفات ألا يمكن إذن أن نصفها بأنها طموحة ما دامت تهدف إلى أن تكون
أيديولوجية للثورة العربية ، تسقط مقولات الوحدة والحرية والاشتراكية وتستعيض عنها
بمقولتي " إرادة الحياة والحرية ".
أليست مغامرة
فكرية حقيقية محاولة تحدي العقائد والفلسفات والأيديولوجيات الثورية وغير الثورية
والنظريات العلمية وغير العلمية ؟
إنها مغامرة
طموحة . هذا هو الانطباع الأساسي الذي يخرج منه قارئ الأيديولوجية الحيوية في
مصادرها الأربعة الرئيسية : (الأيديولوجية الحيوية ، هوية القومية الصهيونية ، هوية
القومية العربية ، الإنسان شكل ) . وليس ثمة ريب في أن الكتاب الأخير أكثر نضجاً .
إنه مؤشر على تقدم حقيقي خلال أربع سنوات . إنه رؤية للإنسان والحياة تنضح شاعرية .
إنها رؤية فنان للإنسان وللحياة . ولو أنها جاءت في إطار ملحمة شعرية أو أدب
الرواية لقدمت للشعر شاعراً حقيقياً وللرواية كاتباً ملهماً . مع ذلك فإن هذا لا
ينقص من جدارتها كمحاولة فكرية خالصة . وكل هذه الجدارة في أنها مغامرة جريئة
وطموحة بالفعل ، تستحق أن يتوقف القارئ عندها . إنها تمثل الطموح الجدي الذي يساور
جميع المناضلين الصادقين الطامحين إلى أن تكون للقضية العربية أيديولوجية ثورية
متكاملة تقود كفاح الجماهير العربية لا من أجل إرادة الحياة والحرية وحسب وإنما من
أجل الاشتراكية أيضاً .
|