مشـروع رؤيـة متسارعة
في آفاق المفكر الحيوي رائق النقري
فقه المصالح .. وإشكالية المنهج الحيوي الإسلامي
الأستاذ الباحث : محمَّد الراشد-
حلب
حينما تصفَّحت كتاب " فقه المصالح .. منهج الحيوية الإسلامية السياسية " للمفكر
العربي السوري الدكتور رائق النقري , لم تتوالد في أعماقي أية علامات تعجب
أو استغراب فلطالما عرفت هذا الباحث منذ كان شاباً في أواسط السبعينات من القرن
العشرين .. ولطالما أحسست منذ أول وهلة أنَّه يمتلك دفقاً حيوياً خلاَّقاً يتطلع
إلى مواكبة العصر والإمساك بالمفاتيح السرية لبوابة الحضارة .
.
وعلى الرغم من اتفاقي معه في الخطوط العامة لشمولية الوجود الحيوي , إلاَّ أنني كنت
أختلف معه حول نقطتين أساسيتين :
أولاهما عدم تماسك النظرية الحيوية على صعيد الألوهية , وفكرة التوحيد
.
وثانيتهما انطلاق مدرسة دمشق للمنطق الحيوي من تغييب الرؤية الإسلامية بكل أبعادها
الفكرية والثقافية عن دائرة المنطق الحيوي...لكنما ذلك لم يخلق فجوةً أو شقاقاً
بيني وبين النظرية الحيوية , وذلك بحكم وحدة المنطلق لكلينا .. عنيت بذلك وحدة
الوجود الحيوي .
.
ثمَّ راحت الأيام تترى ليتجدد اللقاء مع مدرسة دمشق للمنطق الحيوي وتتواصل وشائج
القربى , لاسيما بعد أن اعتمد الصديق رائق النقري الحيوية الإسلامية دائرة ً معطاءةً
يتحرك فيها المنطق الحيوي عبر كتاب رائق بأجزائه الأربعة , والذي يحمل اسم " المنطق
الحيوي-عقل العقل" وها أنذا الآن أمام سفره " فقه
المصالح" والذي يعمد فيه إلى منهجة الحيوية الإسلامية على ضوء المعطى الثقافي
العربي الإسلامي , وعلى ضوء أحدث العلوم الكونية ممثلةً بالحاسوب دون الخروج عن
أبجديات العصر وحضوره العام في قريتنا الصغيرة ( الأرض).
"فقه المصالح .. فقه الحياة"
مالحياة ..الاَّ ذلك الإيقاع الأبدي لتعينات الوجود كلاً وتفصيلاً , باعتبارها
ذلك النمو الأزلي الذي يذيب تشكُّله الآني وصولاً إلى تشكُّل أخر .. وما هذا
التشكُّل المتواصل إلاَّ نفيٌ للموت , وتأكيدٌ للحياة ..ليس باعتبارها نوعاً أو
فصيلاً من الوجود.. وإنما باعتبارها الوجود كله , وهذا يعني أن خصائص الحياة هي
نفسها خصائص الوجود , والعكس صحيح بالضرورة .. "ولطالما أشرت إلى ذلك بمزيدٍ من
التفصيل في كتابي " إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي"في الفصل الذي
سطَّرته عن وحدة الوجود الحيوي"
.
وانطلاقاً من ذلك , لا يسعنا سوى القول بأن فقه الحياة هو فقه المصالح فماذا عن
الفقه ..؟
يقول السيد الشريف الجرجاني في الصفحة الخامسة والتسعين وما بعدها من كتاب"
التعريفات": ( الفقه هو في اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه , وفي الاصطلاح: هو
العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية .
وقيل هو الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به الحكم , وهو علم ٌ مستنبط
بالرأي والاجتهاد ويحتاج فيه إلى النظر والتأمل
.
ولهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فقيهاً لأنه لا يخفى عليه شيْ"
وبما أنَّ الوجود كائنٌ حيٌ فهو متكلم بالضرورة ..وكلامه قوانينه الناظمة ,
وتشكُّله المستمر وتكمن مهمة الفقيه الحيوي في إدراك أغراض كلام الوجود الحيوي
واختراق الحجب وصولاً إلى رؤيةٍ أكثر شمولاً من القوننة الحيوية للوجود , وبالتالي
التعامل معها وفق مصالح مشتركة.
ذلك أنَّ كل ما في الوجود ينطلق من المصلحة باعتبار ( فقه المصالح) هو المياس
المعياري الحاسم بالنسبة للحيوية الإسلامية , وأية حيوية أخرى تعنى بقراءة حضارةٍ ,
أو مجتمع آخر ..ويمكن تحديد هذه المصالح ضمن تحويات أربع دارات متحوِّلة وهي (العزلة
. التعاون الصراع. والتوحيد ) يجمعهما معاً منطق وحدة مربع المصالح , وفي التراث
الإسلامي يمكن ملاحظة فقه المصالح بوضوح
ينطلق المؤلف من أساس صلب في دراسة أية وحدة اجتماعية إنسانية من وحدة مربع
المصالح ..هذا المنطلق القابل للتطبيق على الأفراد والجماعات في كل زمانٍ ومكان وذلك
باعتبار وحدة مربع المصالح هي التقنية المنطقية للهندسة المعرفية الحيوية الموحدة
المستمدة من أبسط وأشمل أبعاد الكائن القابلة للمقايسة وهي ثنائية الأبعاد والجذور
الزمكانية .. أي بعد مصالح تحوي الحيازة مكانياً .. وبعد مصالح تحوي الإيقاع
والتصنيف زمانياً, مؤكداً بأن (تقنية مربع المصالح تشير إلى تحول ضمن أربع دارات هي
العزلة . الصراع . التعاون الوحدة )
من ثمَّ يذهب في كل اتجاه ليطبق هذه الهندسة المعرفية على التراث العربي الإسلامي
ويصل إلى تعاريف ونتائج مذهلة معرِّفاً العولمة والعولمة الحيوية , وبالتالي
عولمة الإسلام السياسي والتي تعني السعي لجعل حركات ديار العرب والمسلمين قادرة على
الفهم والاستجابة لمتطلبات العصر وتقنياته في كون قضية الحياة والحرية قضية عالمية
وعولمة الإسلام على الصعيدين الثقافي والسياسي ليست اختراعاً من عدم وإنما هي كشفٌ
لقانون كان (ولا يزال) وسيبقى يتضمن الخطاب التوحيدي الإسلامي الذي يحتوي حدوس
العولمة , حيث كان خطاب الوحي منذ المراحل الأولى لتنزُّلاته يعمد إلى مخاطبة
الإنسان ..كل إنسان بغض النظر عن عقائده وأفكاره ولونه وعرقه وجغرافية المكان الذي
يقطنه, إذ أنَّ عبارة " يا أيهّا الناس" وردت في النص القرآني عشرون مرة , وهذا من
شأنه التأكيد وبمزيد من الحسم أن الثورة الإسلامية لم تكن تستهدف العرب وحدهم ولامن
يتبعون الوحي المحمدي وحسب , وإنما كانت تستهدف الإنسان في كل زمان ومكان ..وهكذا
تابع رائق دراسته انطلاقاً من وحدة مربع المصالح ومن الشكل الحيوي الذي يتضمن كل ما
في الوجود .
وبما أنَّ الباحث أورد بأن " مفهوم الشكل ليس مطروحاً للإيمان , بل مطروحاً لكي
يكون إجراء ً تقنياً هندسياً نطمئن به إلى قدرتنا على ضبط أية كينونة تواجهنا"
لذا لن أعمد إلى مناقشة مفهومه للشكل الذي يتضمن كل موجود على الإطلاق بما في ذلك
بارىء الأكوان , حيث أختلف معه كل الاختلاف حيال هذا التعميم , وذلك باعتبار الله
تعالى لا يخضع لكل المقاييس والمفاهيم البشرية على الإطلاق , وانه يتعالى عن كل
شكل وتشكل , لكنني أتفق معه كل الاتفاق على كون كل شيْ في الوجود شكل وقابل للتشكل
باستمرار باعتبار الشكل هو المصطلح الوحيد الذي يشمل العالم وما فيه بلا استثناء ,
والنقري يؤكد ذلك باستمرار موضحاً بأن (الحيوية بوصفها مفهوماً ليست مجرد معنىً
للفاعلية والتجدد التي تختلط بالمعاني البيولوجية .. بل هي صيغةٌ أشمل للدلالة على
التكون عامةً , سواء أكان بيولوجيا أم آلة صناعية , أم منظومة تجارية أو بيئية أو
فنية أو فكرية أو دينية أو عائلية )
ويرفض النقري إضفاء الحيوية على إنسان دون آخر , أو فئة دون أخرى لكنه يرى أن
هناك تفاضلاً في الحيوية بين الأفراد إذ أن الجميع يتميز بهذه الصفة , لكنما
الإشكال يكون في أنخفاض معدل الحيوية لدى البعض إلى درجة الشخصنة , والتخثر والجمود
, فيما تتنامى الحيوية لدى من يتمركزون على هرم التفرد , وهكذا فإن الفقيه الحيوي
يتمثل في (الشخصية التي تؤكد سلوكياتها وأقوالها الأكثر تواتراً وعقلانيةً مرجعية
ما الذي ينفع الناس ومصالحهم المشتركة في شيوع الخير والأمن للجميع بوصفهم نظراء في
الخلق على حد تعبير الإمام علي بن أبي طالب ) وبشكلٍ يكون فيه الفقيه الحيوي متوجهاً
تلقاء مصلحة الجميع مع إلغاء الاستثناءات مهما كانت صيغ تشكلها
وإذا كان الأمير الحيوي هو ( كل من يقود جماعةً سياسيةً توحيدية أو يساهم في هذه
القيادة ) فإن الإمام الحيوي هو ( القادر عملياً وسياسياً على تحقيق مصالح ملموسة
لمجتمعه على طريق الخير والحرية للجميع ) .
وبناءً على التعاريف الآنفة الذكر , فسنجد أنفسنا أمام أكثر من فقيهٍ حيوي كما قد
نصادف أكثر من أمير حيوي أيضاً , لكننا لن نعثر على إمامٍ حيوي على الإطلاق ).
وفي هذه النقطة أسجل خلافاً كبيراً مع رائق النقري الذي تلمس المنهج الحيوي
المتمثل باستخدام ذلك المعطى الحيوي سياقه الزماني كما في سياقه المكاني ليكون
منطلقاً إلى مستقبلٍ أكثر حيوية قادر على ضبط العلاقات البشرية عامةً , والعربية
الإسلامية خاصةً وفق تشكلٍ حيوي لا يصادر حرية الآخر , ولا يلغي حضوره الإنساني ,
وإنما يتطلع إلى توظيف إيجابياته وصولاً إلى ضربٍ من التوحد الإنساني المتنوع بعيدا
عن العراك وبعيداً عن الصراع , وسيراً على محوري التعاون والتوحد
.
بناءً على تلكم المقدمات , يؤكد بأن ( الحيوية الإسلامية هي طريق العرب والمسلمين
إلى عصر النطق الموحد للشكل الحيوي ودخول لا لنفي الآخر ) وإنما لتحقيق الغنى
بالآخر والغنى للآخر في نفس الوقت , لذا فإن عولمة الإسلام السياسي لا تعني إخضاع
الآخرين للإسلام والطقوس الدينية والمذهبية , بل تعني طمأنة المسلمين وغير المسلمين
إلى قدرتهم على تحطيم الأصنام الطائفية والعنصرية ) وصولاً إلى الشروع في المشاركة
العربية الإسلامية في إقامة صرح سلامٍ عالميٍ شموليٍ , وبالتالي تحقيق إرادة الحرية
والحياة التي سعى إليها الإسلام منذ بدايات تنزلات الوحي على محمد بن عبد الله
صلوات الله عليه وآله حيث أنَّ من يقرأ الوحي ويتمثَّله في سوره وآياته البيِّنات
بعيداً عن المؤثرات التاريخية , وبعيداً عن الأهواء الشخصية , يتضح له بما لا يقبل
الجدل , أنَّ رب العزة جلَّ شأنه لم يدفع بمجتمع المؤمنين إلى أسلمة العالم القديم
أو الحديث , وإنما دفعهم إلى تحقيق إرادة الحياة والحرية
.
وهكذا فإن الهندسة المعرفية المتمثلة بتقنية مربع المصالح تستهدف إخراج بني الإنسان
عامة وبدأً من العرب والمسلمين خاصَّةً , لتنقلهم من أطوار مصالح منطق العزلة
والتعاون الصوري الإمبراطوري ومنطق الصراع والنفي بالسيف والبندقية ,إلى رحيب
الإنسانية عبر إلغاء الصنمية المتمثلة في الطائفية و القومية .. وصنمية
الإمبراطورية الأحادية التي تستقطب العالم بأسره وتوظفه لمصالح الهيمنة التي تقوم
عليها وبالتالي إلغاء الصنمية الفردية التي تسقط مفاهيم البطولة والحكمة
والعبقرية على هذا الصنم الأرضي أو ذاك , وتضع الهندسة المعرفية موضع الفاعلية
والتطبيق وتولد ( رؤى فكرية) قادرة على تفسير حركة الامتداد التاريخي وحركة الحاضر
السرمدي لبناء سلم الحضارة عن طريق تحقيق إرادة الحياة والحرية
.
وهكذا ففي ( طور مصالح المنطق الموحد للشكل الحيوي , فإن الهندسة المعرفية تأخذ
صيغةً أكثر شمولاً وقدرةً على تفهم ذاتها , بوصفها معرفةً إجرائيةً يمكن التعبير
عنها بأية لغةٍ كانت .. بشرية أم فضائيةً , بل وفي الإبداعات المتنوعة وحتى في
الأزياء.. لأن هذه اللغات تستمد قدرتها المنطقية التي تعبر عنها من الهندسة
المعرفية التي تعتمد النظرية والخبرة سواءً بسواء
..
لقد اعتمد المؤلف القرآن الكريم بوصفه ( نموذجاً هائلاً للهندسة المعرفية) وهذا
ما نسعى لتقديمه مستقبلاً في إطار دراسات شموليةٍ تحت عنوان " المنطق الحيوي للقرآن"
وهو المشروع الذي أشرت إليه في كتابي " القرآن وتحديات العصر
"
هذه الهندسة المعرفية تمتح من المعطى القرآني الذي قدَّم نفسه على أنَّه ( الذكر)
وأنَّ الرسول الكريم (ص) هو المذكِّر , لذا فإنها تنطلق من أبجدية التذكر والتذكير
( بأم الكتاب , وباللوح المحفوظ) بوصفه منطق يحرِّض على الحياة والتوحيد والحريِّة
.
تلكم هي المنطلقات الأساسية للدخول في دنيا العولمة الحيوية للإسلام السياسي هذا
التوحيد السياسي الذي يعني الوصول إلى (صيغةٍ لنشر التوحيد الحيوي ومتابعة حدوس
الإسلام السياسي الذي يقوم على التنوع والتعدد الصوري ضمن معطيات ذلك العصر) أما
الحيوية الإسلامية في عصرنا هذا , وفي يومنا هذا , فقد رامت ( الاستفادة
من الدروس الحيوية التوحيدية التي تتضمنها) وهذه الرؤى الإسلامية كلما كانت أكثر
حيويةً كلما كانت (الأقدر على تجديد أصالتها لتتسق مع منطق العصر الذي نعيشه) وكلما
تمكنت من تحييد أصنام العرقية والطائفية المشخصنة , كلما حققت ثراءً أكبر على شواطيْ
الحيوية الإسلامية المستقبلية
.
ولهذا فإن ( عولمة الإسلام السياسي لا تتطلب برهاناً إيمانياً , بل برهاناً منطقياً
يستند إلى فقه المصالح الذي يؤكد على فائدة وخير التوحيد والعولمة ).
كما أنها لا تسعى إلى تقديم حلولِ نهائيةٍ وخالدة بقدر ما تتطلع إلى تقديم حلولٍ
إجرائيةٍ مؤقتةٍ انطلاقاً من فقه المصالح.
إنَّ المنطق الحيوي في القرآن الكريم ينطلق من التوحيد أولاً وصولاً إلى (تجاوز
السياسات والأفكار التي تحوي مصالح أحاديةً) وذلك تمثلاً بقوله تعالى في خواتم سورة
الأنبياء " وما أرسلناك إلاَّ رحمـةً للعالمين" لذا يرنو النقري إلى توجهٍ عربيٍ
إسلامي حيوي قادرٍ على تجاوز كل الصيغ الطائفيةِ والعرقية والدينيةِ تحقيقاً لتعايشٍ
حيويٍ إسلامي مشترك , متجاوزاً مبدأ الجوهر والشخصنات المختلفة التي كان ولا زال
يعاني منها العرب والمسلمون , ويقدمون لها قرابين باهظة على صعيد الاقتتال وسفك
الدماء والتراجع عن صورة العصر , لذا يستهدف رائق الوصول إلى صيغةٍ تحقق للعرب
والمسلمين دخول العصر , وهذا لا يتم إلاَّ بالإعتراف بالآخر وحقوقه الكاملة بعيداً
عن مصادرة الحقيقة والتمركز على صخور نمطية العقلية الأحادية التي تلغي الآخر
وتصبغه بألوان الكفر والزندقة وتضع على رؤوسها الصديدية تاج الحقيقة المطلقة
.
إنَّ تمثل أبجدية العصر , ومواجهة الهيمنة الكبرى لا تتم إلاَّ بالتصدي لركائز قوى
الهيمنة وأدواتها المتمثلة بنفي الآخر سواءً أكان عروبياً أو إسلامياً ..عنصرياً أو
دينياً , وبالتالي فإن تعميق المنطق الحيوي فينا وتجذيره عن طريق توليد توجهٍ حيوي
( يتبلور بميثاق ٍ حيوي تقبله الغالبية العظمى) وتحقيق المواطنة الحيوية للجميع على
طول امتداد أرض العروبة والإسلام , بعيداً كل قوى الشخصنة وأصنامها المختلفة
إنَّ حقيقة المواطنة الحيوية الإسلامية كتجربة ليست فلطالما حققتها الإمبراطورية
العربية الإسلامية حيث كان يعطي المسيحي لقيصره الإسلامي المتمثل بالخليفة أو
السلطان أو الأمير هنا وهناك , وهو ما لم يكن يتعارض مع ولائه الديني يومذاك كما
لا يتعارض اليوم مع ولائه الديني أيضاً انطلاقا من مقولة السيد المسيح " أعط ما
لقيصر لقيصر".
وبعد أن يضرب رائق على ذلك الأمثال من تاريخ الأمس ( بما في ذلك التوجه والسلوك
النبوي وفي أكثر من حادثة) حيث رفض (ص) قتل أيُ مشركٍ ما دام قد أعلن استسلامه بنطق
الشهادتين سواء أكان صادقاً أم كاذباً, ولطالما قرَّع الرسول الكريم(ص) خالد بن
الوليد حينما قتل أناساً لم يؤمنوا , لأن الرسول (ص) إنما هو رسول مرحمة ..لا ملحمة
, رسول عطاءٍ للناس أجمعين
..
وبما أنَّ العالمين العربي والإسلامي يشكلان اليوم ( وحدةً فئويةً سياسيةً)لذا يقع
على عاتق العرب والمسلمين تحقيق هذه ( المبادرة الحيوية) لإقامة " دولةٍ واحدةٍ ذات
سيادة قادرة على إصدار القرار السياسي الشامل لديار العرب والمسلمين في مجال الدفاع
والسياسة الخارجية على الأقل" وذلك عبر إتحاد ولايات عربية إسلامية لكلٍ منها حق
الحكم الذاتي وفقاً لظروفها وصيغ مصالحها الخاصَّة وهذا لا يحقق الأمن والسلام
للعرب والمسلمين فحسب , بل يحقق أهداف الوحي وتطلعات رسول الله (ص) ويمثل الخطوة
الأولى لدخول بوابة العصر حيث يتوجه العالم اليوم ( للتحول نحو منطق الشكل , الذي
يجعل المصالح مشتركة وملزمة على المستوى العالمي ) ولعل السوق الأوربية المشتركة
والوحدة الأوربية المزمع إعلانها أكبر دليل على ذلك .
وإذا كانت دول القارة العجوز( أوروبا) تسير في طريق بناء وحدة أوربية رغم كل
الخلافات الدينية والعنصرية والعرقية محققةً تجاوزاً لكل ذلك , فإن العرب والمسلمون
هم الآخرون من حق شعوبهم بل من الواجبات والأولويات المترتبة عليهم تحقيق وحدة
إسلاميةٍ تنطلق ن معطى منطق الشكل عبر توجه حيوي إسلامي خلاَّق محققين بذلك ( صيغة
اجتماعية ثقافية حضارية عالمية) كمعبر وحيد لابد منه لملاقاة العالم المتقدم في
منتصف الطريق.
ولعل وضع تلكم الصيغة الحيوية الحضارية موضع التنفيذ كفيلة بتجاوز أهم إشكاليات
العالم الإسلامي والمتمثلة بالأقليات .
ذلك إن هذه الأقليات إذا ما وجدت المناخ الصحي لها نظرياً وعملياً فستحمل طوعاً
هوية الولايات الإسلامية المتحدة بمزيد من الأمل والثقة بالمستقبل , وستقبل بمثل
هذه المواطنة رغبةً منها بذلك , ليس لأنها أفضل الخيارات المطروحة أمامها على
الإطلاق فحسب , وإنما لأنها الكفيلة بتحقيق شرطها الإنساني لتمارس وجودها الحيوي
جنباً على جنب مع الأغلبية وبذلك يخرج كل المواطنين من قدرهم التعيس الذي فرضوه على
أنفسهم وفرضه عليهم الاستعمار.
هذا القدر التعيس المتمثل بإشكالية ( الكل ضد الكل) ليغدو الكل مع الكل وذلك لأن
العروبة ( ليست قيمةٌ حيوية بذاتها , ولذاتها بل هي منطق ووطن وتيار والإسلام ليس
قيمة حيوية نظرية مجردة فقط , بل هو منطق مستلهم من ( أم الكتاب) وموجودة أسسه
الحيوية في ( اللوح المحفوظ) بوصفه المنطق الحيوي للكون وقانونه, هذا المنطق الذي
صاغه الإله لهذا الكون المترامي الأطراف وليس لقريتنا الصغيرة ( الأرض ) فحسب
.
بيد أنَّ الميثاق الحيوي لا يحقق حضوره ما لم يحقق التعددية السياسية إضافةً إلى
التعددية الفكرية والعقائدية , في حين أنَّه إذا ما صمَّ آذانه عن آراء الآخرين
وصيحاتهم أو تجاهلهم أو نفاهم ولم يعترف بهم فكرياً وعقائدياً وسياسياً فهذا يعني
أنه يحفر قبره بيده ويتحول من ميثاق حيوي إلى ضربٍ من الجمود والشخصنة , ثم الموت .
وفي هذا الإطار ستبرز اتجاهات عديدة لكنما يمكن اختزالها باتجاهين فئويين يتوقع
رائد النقري قيامهما ( انطلاقاً من حيوية عربية إسلامية:
ـ الاتجاه الفئوي الأول : هو اتجاه قوى الشخصنة التي تجسد الموروث الاجتماعي وتغلقه
.
ـ الاتجاه الفئوي الثاني : هو الذي يرفد الموروث الاجتماعي بوصفه إنحطاطياً ويسعى
للتجديد , وهؤلاء قوى التفرد
.
وسيعمد اتجاه قوى التفرد بالضرورة إلى مقاومة القيادات التقليدية مفسحاً الطريق
أمام النزعات التجديدية والتي تتنامى أكثر ما تتنامى لدى الأجيال الشابة , وعلى وجه
التخصيص في قطاع الطلبة , وتبدو جدوى الميثاق الحيوي العربي الإسلامي في ( تشجيع
الاختلاف والتنوع والبحث عن تنوع وتعدد البدائل على أرضية المصالح المشتركة ) وبشكلٍ
تصل فيه إلى مرحلة من النضج والتعالي بحيث تتجدد في العقول والقلوب والضمائر
مشروعية الآخر وأهميته .
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه بضربٍ من الحسم والتركيز : كيف يصار إلى مواجهة قوى
الهيمنة في دوائر فقه المصالح ومنطق السياسات الحيوية ..؟؟
وهنا تقتضي الضرورة إيجاد العدو المفيد الذي طالما سعت كل حضارات الأمس واليوم إلى
توليده .. فلقد كان هذا العدو المفيد في انطلاقة الحضارة العربية الإسلامية ممثلاً
بتعدد الآلهة وعبادة الأصنام , وبنفس الوقت ولدت رموزاً عالمية . . وهكذا عمدت كل
حضارة إلى إيجاد العدو المفيد ..
وعلى المنطق الحيوي العربي الإسلامي المعاصر العثور على عدوٍ مفيد أو أكثر . .
ولدينا والحمد لله أكثر من عدوٍ مفيد .
وانطلاقاً من ذلك علينا بادىء ذي بدء معرفة أنفسنا قبل البحث عن العدو المفيد الذي
تقتضي الضرورة مواجهته .. وبمعنى أكثر دقة( فإن علينا أ، نتعرف هوية يمكننا بها
الرد على قوى الهيمنة) و(على قوى القصور والانحطاط التي نعيشها منذ قرون وتجعلنا في
الدرك الأسفل من العالم )
ويجد النقري في اليأس عدواً أساسياً ويقترح توظيف المبادرة الحيوية في أرض العروبة
والإسلام بالتركيز على المستوى الشعبي والمستوى الرسمي معاً. . مؤكداً بأننا إذا
خرجنا من دوائر اليأس والتخلف , وأزلنا التفرقة والتناحر , واعترف كلٌ منا بالآخر ,
آنذاك نصبح قادرين على دخول العصر .. وهذا لايتم إلاََّ ( بالتخطيط العملي والبعد
عن الارتجال والبعد عن رفع الشعارات غير القابلة للتحقق عملياً ) وذلك وصولاً ليس
إلى الوحدة الحيوية عربياً وإسلامياً فحسب, وإنما الوصول إلى ( وحدة الأساس المنطقي
الحيوي ) وآنذاك يغدو الطريق أمامنا مفتوحاً بحيث نستطيع ( ملاقاة العالم في
منتصف الطريق)
إنه طريق مزروع بالأشواك لكننا لابد لنا من عبوره .
ويركز النقري في الفصل الرابع على فقه المصالح والعبور إلى القرن الواحد والعشرين (
من خلال السعي لإثبات ذات متوازنة مع المصالح المشروعة للآخرين) لذا (فالعرب
والمسلمون مطالبون أكثر من أي وقتٍ مضى بالتخلص من نمط المشاعر الذاتية التي ما
تزال تحظى بالقدسية لدى الجماهير ومطالبون باستبدال المشاعر السائدة آنياً نحو
الآخر لنقبل ما كانوا يرونه قبل سنواتٍ فقط رمزاً للنجاسة والنفي والعدوان) ثم يدرس
المبادرة الحيوية على المستوى السكاني والبيئي والمبادرة الحيوية على المستوى
الاقتصادي .
ولكن .. ماذا عن البرمجة الثقافية التقنية التي تعتبر الحجر الأساس ..؟؟؟ وذلك
باعتبارها تنطوي على أبعاد ثلاثية قوامها البعد النظري .. فالبعد العملي المعاش
وأخيراً البعد التقني الذي يضفي عليها هدفها الأساس المتمثل في برمجة الفرد
والمجتمع والإطار الجغرافي الذي يحتضنهما
.
وإذا كان التأزم والضياع الثقافي اليوم يطال كل المجتمعات الإنسانية بواقع نسبي
يختلف من تشكل ديمغرافي لآخر فإن المجتمعات العربية والإسلامية يكاد يبلغ حد
التأزم والضياع الثقافي بأبعاده الثلاثية نسبة مئوية مرتفعة جداً ذلك أن هذه
التشكيلات الديموغرافية العربية والإسلامية ينحصر الواقع الثقافية لها ببعد أحادي
يتمركز بتوجهات أيديولوجية أو ( فكرنات نافية ) على حد تعبير رائق النقري , حيث
يتمركز على رأس الهرم النمو المطرد وغير المعقلن للعنصرية الثقافية بحيث نرى المعطى
الثقافي عربياً وإسلامياً حائلاً بينها وبين دخول بوابة العصر , ولعل أخطر ما في
هذه الأيديولوجيات بتوجهاتها القومية والدينية كونها ( تعطينا على المستوى الرسمي
والشعبي شعوراً مخدراً بقرب النصر ) بينما منطق الواقع ومنطق العصر ومنطق التطلع
الحيوي يؤكد بأنه مع غياب كل شمس تزاد المسافة بيننا وبين ذلك النصر الموهوم
ولاسيما أن قوى الهيمنة التي نرغب بالانتصار عليها يزداد منسوب احتكارها لتقنيات
العصر وعلومه ,هذا وبالقدر الذي نعمق فيه توجهاتنا الإيديولوجية المتمثلة (في روح
الغزو والتوسع للتعريب والأسلمة التي تجتَّر شعاراتها وكأنها مهمة مقدسة , وتكليف
من الله لتحقيقه) ناسين أو متناسين قوله تعالى " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم
جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا اليوم : كيف نبدأ ..؟ وبكل بساطة يؤكد المؤلف بأن (
البداية هي من حيث انتهت الآن الثورة التقنية الغربية واليابانية والصينية والهندية
, أي ثورة المعلومات) وانطلاقاً من هذه الرؤية فإن ( المنطق الحيوي بدأ
منذ سنوات في التبلور كمنهج لصياغة المفاهيم في العلوم الكمبيوترية , وهذا يعني أن
المجال مفتوح لتطورات مثيرة منى كل نوع) لكنما هذا لا يكفي لاختراق حجب العصر فلابد
من ( البحث عن تقنية حقوق الإنسان لتحقيق الأمن الحيوي) في دول وشعوب لا علاقة لها
بالديموقراطية وحقوق الإنسان كما لا علاقة لها بالأمن الحيوي , ولا بأي شكل من
أشكال الأمن المطلوب للفرد والمجتمع كما لابد لنا من ( احتواء هيمنة الأنظمة ..
وذلك كله من شأنه المساهمة في رسم ( سبل الخروج من صيغة العجز والنفاق والانتهازية
السياسية السائدة عند معظم القوى الحاكمة والمعارضة ..سيبقى في إيجاد ميثاق حيوي
تقدِّره الغالبية من المواطنين , تؤكد الاتجاه الحيوي في ديار العرب والمسلمين
باعتباره لأرضية مشتركة تقر وجود الاختلاف , وضرورة التنوع وتجعل التنوع الحيوي
العربي الإسلامي هويةً مقبولة للجميع ).
هذا ما يقوله الصديق رائق النقري في آخر صفحات الكتاب مؤكداً بأن هذا هو طريق
الحياة ..والحرية.
والآن إذ عمدت إلى هذا الاستعراض السريع
محاولاً رسم رؤية المؤلف بالدقة الممكنة , حيث وضعت كل ما جاء في كتابه ( فقه
المصالح) بين قوسين , ولكن السؤال الذي يبرز أمامنا للتو واللحظة:
هل يقدم لنا رائق النقري علماً عصرياً يتطلع إلى تحقيقه على أرضية الواقع لمجرد كون
هذا الحلم الحيوي قادر على استبدال هذا الواقع الغافي في أحضان العدم , إلى واقع
حيوي خلاَّق قادر على مواكبة العصر ..!!
وبالتالي ..إذا كان الواقع العربي والإسلامي المعاصر يتآكل من خلال دارة الصراع
هنا ودارة العزلة هناك , فكيف يصار إلى وضع مربع المصالح قيد الفاعلية والتنفيذ
..؟
ليس هذا فحسب , بل كيف نحول الصراع إلى تعاون , والعزلة إلى توحيد ..؟
أنا شخصياً مع الخطوط العامة لفقه المصالح والمنطق الحيوي عربياً وإسلامياً مع
بعض التحفظات التي أشرت إليها في متن هذه الدراسة لكنما السؤال الكبير الذي يبرز
هو: كيف يصار إلى بناء إنسان الحيوي في الوقت الذي لا تتواجد فيه كتب المؤلف رائق
في الأسواق ولا يمتلك رواد المنطق الحيوي مجلَّة أو جريدة أو قناة إعلامية يعبرون
فيها عن آرائهم ..!!!
محمّد الراشد
|