الثوره- العدد7923--1989-الشهر الرابع-1
محمود استانبولي
المنطق الحيوي يطرح " الشخصية والتفرد
للحوار العربي ـ العربي
بدعوة من اتحاد الكتاب العرب وبالتعاون مع مكتبة الأسد . القيت مساء يوم
14/3/1989 في قاعة المحاضرات بمكتبة الأسد ، محاضرة للدكتور رائق النقري
بعنوان المنطق الحيوي والحوار العربي العربي في البداية تحدث السيد مسؤول
الثقافة في مكتبة الأسد معرفاً بالمحاضر ، فذكر بأن الدكتور رائق النقري ولد
عام 1947 في قرية الشعيرات من أعمال مدينة حمص ، وهذه القرية الصحراوية يبدو
أنها تبشر بولادة عبقرية فذة حيث أننا سنتعرف من خلال ما سيطرح في هذه
المحاضرة على فلسفة عربية جديدة تشكل منعطفاً في تاريخ الفلسفة العالمية ...
والجدير بالذكر فإن المحاضر حائز على دكتوراه دولة في الفلسفة والآداب
والعلوم الإنسانية من باريس ويعمل أستاذاً محاضراً في جامعة باريس ويدرس
المنهج الحيوي وتطبيقاته على الفكر الفلسفي والسياسي والجمالي العربي
الإسلامي المعاصر وله حق الإشراف على أطروحات الدكتوراه المقدمة إلى تلك
الجامعة ، كما أن للدكتور رائق نقري نشاطات متعددة منها :
على مستوى الفن التشكيلي نال عدة جوائز في مجال الحفر والرسم وعلى المستوى
الأدبي له روايتان أما على المستوى الفكري والسياسي فقد أسس مجموعة البحث
الفكري والسياسي الحيوي عام 1967 والتي تعرف اليوم باسم مدرسة دمشق للفكر
النقدي والمنهجي الحيوي صدر للدكتور رائق النقري عدة مؤلفات فكرية ففي عام
1970 صدر له كتاب الأيديولوجيا الحيوية وفي عام 1971 صدر له كتاب تطبيق
المفهوم الحيوي للمسألة القومية " هوية القومية العربية .. " وفي عام 1972
صدر له كتاب المفهوم الحيوي على الهوية الصهيونية " وفي عام 1975 صدر له كتاب
الإنسان شكل الجزء الثاني من الدليل النظري وفي عام 1975 كتاب القانون الحيوي
للكون وفي عام 1976 كتاب النظرية الحيوية في المعرفة . وفي عام 1984 قدم
الدكتور النقري اطروحة دكتوراه دولة في الفلسفة بجامعة باريس بعنوان المبادئ
الحيوية في الفكر الفلسفي و والسياسي العربي المعاصر .
وقد أشار السيد مسؤول الثقافة في مكتبة الأسد إلى أنه لأول مرة في هذه
القائمة يطرح من على منبرها منهج فكري جديد تنبع أصالته من أصالة أرضنا
العربية التي كانت مشعلاً للفكر الأصيل الذي اهتدت به الإنسانية جمعاء ، وبعد
هذا التعريف بصاحب المنطق الحيوي كما قدمه مسؤول الثقافة بمكتبة الأسد باشر
الدكتور رائق النقري بالتعريف بالمنطق الحيوي فذكر بأن القانون الحيوي ينطلق
من مقولة مركزية بديهية "بداهة الحياة نفسها" فكل شيء حي في هذا الكون ، وكل
الكائنات تعبر عن القدرة الحيوية اللامتناهية.
وأن الحياة هي صفة متجددة مبدعة .. وليست حالة جوهرية عينية ثابتة يتميز بها
كائن معني دون سواه .. كما أن الحياة هي النضال ضد القصور ، وأن إرادة الحياة
هي الحرية .. وأن كلمة الحيوية هي دلالة على الفعل الحي المبدع الخلاق الذي
تتميز به جميع الكائنات والحوادث أي أنها ليست دلالة على الحياة بصفتها "
البيولوجية " فقط .
وأن هناك قنونة حيوية واحدة تعم الكون بجميع تشكيلاته ، وتشمل " المجتمع
والفرد والفكر والسياسة ضمناً " وأن هذه القنونة تنطلق من خمسة مبادئ هي :
المبدأ الأول :
الكينونة شكل :
أي أنه ليس في الكون جوهر عيني ثابت مستقل ، فالكائن شكل بدلالة معماريته
وطريقة تكونه لذلك ليس ثمة مجال للقول بجوهر ثابت سواء أكان مادة أم روحاً ،
كتلة أم طاقة .
المبدأ الثاني :
الكينونة حركة :
أي أنه ليس هناك محرك ، بل أن كل كائن محرك ومتحرك بآن واحد ، ولا يجوز النظر
إلى المحرك ككائن جوهري متميز عن الحركة . وأن الكائن حركة بدلالة فرق الجهد
المحرك ، وبالتالي فإن الكائن حركة والمحرك حركة . إذاً فإن الشكل الكوني هو
شكل حركي لا حاجة للبحث عن محرك له مختلف عنه جوهرياً .
المبدأ الثالث :
الكينونة صيرورة حيوية :
يؤثر فيها الكائن ويتأثر بكافة شروط وجوده باتجاهات تتجدد وتحافظ على حيويته
وفعاليته بدلالة تفاعله الكلي لأنساق وجوده ، وأن الحياة هي الكلية التي
تنتمي إليها كل الكائنات جميعاً بوصفها أشكالاً حركية .
المبدأ الرابع :
الكينونة صيرورة احتمالية :
وذلك كنتيجة منطقية لمقدمات تنفي وجود جوهر محرك ومؤثر بشكل سلفي والكائن
صيرورة احتمالية بدلالة احتمال تكونه ، وبدلالة اتجاه الحياة .
المبدأ الخامس :
الكينونة صيرورة نسبية :
وذلك كنتيجة منطقية أيضاً للمبادئ الأربعة المذكورة آنفاً والتي توضح أن
الكينونة صيغة الشكل الحركي الحيوي الاحتمالي الأمر الذي سيؤدي إلى أن الكائن
نسبي لأن اختلاف تاريخ ولحظة تشكله وحيويته يؤدي إلى اختلاف حركات وأشكال
الكائنات واختلاف الكلية الكونية التي تؤلف مجالها الحيوي ، لذلك فإن لكل
كينونة أبعاداً خاصة تتناسب مع المجال الحيوي الذي تقترن بدلالة أبعاده
وتحولات جملته العطالية.
وقد أورد المحاضر الكثير من الأمثلة التي توضح مفاهيم ومعاني المبادئ
المذكورة أعلاه والتي تشكل مدخلاً لموضوع المحاضرة وهو " الحوار العربي ـ
العربي " وذكر المحاضر بأنه قبل الدخول في الحديث عن موضوع المحاضرة لا بد من
التعرض لبعض المصطلحات التي سيستخدمها والتي تعد بمثابة لغة البحث على الصعيد
الاجتماعي :
فكلمة " الشخصنة " تستعمل كدلالة للاتجاه نحو تعميم نموذج شخصي معين سواء
أكان فردياً أم اجتماعياً ، أما " قوى الشخصية " فهي القوى الاجتماعية التي
تمثل الشخصنة الاجتماعية الماشة في صيغة أكثر تمايزاً عن الشخيات الاجتماعية
الأخرى . ويمكن أن تؤدي هذه القوى دوراً حيوياً من خلال الكلية الاجتماعية
المعاشة ، ويمكن أن تكون منغلقة ، سلبية جامدة تسحب الكلية الاجتماعية باتجاه
القصور . أما كلمة "التفرد" فتستعمل للدلالة على تجاوز الشخصنة المعاشة
باتجاه متجدد أكثر انفتاحاً وإنسانية ، وأن قوى التفرد ليست معادية للشخصيات
الاجتماعية المعاشة ، بل أنها تتوجه إليها بلغة وأساليب لتسحب وتحرر الجماهير
من ربقة قوى الشخصنة المتزمتة .
وبعد ذلك قدم المحاضر لمحة عن المنطق الحيوي وعصر النهضة الأوروبي منذ ظهور
الثورة الفرنسية التي سرعان ما انتكست وتحولت إلى قوى شخصنة قومية .. الأمر
الذي أدى إلى ردود أفعال قومية لدى بقية الدول الأوروبية وبين المحاضر كيف أن
هذه القوى جميعاً كانت تتصارع فيما بينها وكيف كانت الغزوات الاستعمارية
الأوروبية بمثابة تأجيل للصراعات الداخلية الأوروبية التي كانت تتنافس فيما
بينها على خيرات البلاد المستعمرة . وكيف أمكن نهوض العالم الثالث واستقلال
معظم بلدانه والتي كانت أولها سورية التي لعبت دور القلب الثقافي والسياسي
للعالم العربي . وكيف أن عبد الناصر كان قد تزعم التيار القومي ليقيم أول
دولة وحدوية في تاريخ العرب منذ قرون لعبت دور المحرض والمفجر لبقايا
الاستعمار في سائر أنحاء آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية . وكيف أنه في
الستينيات من هذا القرن بدأ الانتصار الشامل للقوى الحيوية في العالم الثالث
قريب المنال ولكن حدثت هزائم وانهيارات تجسدت بهزيمة عام 1967 حيث ضربت
تطلعات القوى الحيوية وسحبت المبادرة التغييرية الثورية من يدها.. وبدأت قوى
الشخصنة من جديد تستعيد مواقعها .. ولكن ليس بشكل حاسم وذلك بابتعادها
المتزايد عن تحقيق أهدافها .
وتساءل المحاضر : إذاً أين نحن مما هدفنا لتحقيقه ؟ ولماذا وصلنا إلى نتائج
معاكسة في معظم الأحيان ؟ ترى هل يمكننا توقع تحقيق تقدم حقيقي بدون القدرة
على حل اشكالات هذا المأزق الذي نعيشه جميعاً ؟
فيجيب قائلاً : إن ذلك ممكن .. وذلك بالبحث عن لغة مشتركة لنتحاور بها مع
أنفسنا ومع غيرنا ، وهذا يتطلب حد أدنى من التحسس بالمصالح الحيوية
الاجتماعية المشتركة .. وحداً أدنى من التطابق مع المعطيات العلمية المعاصرة
.. وحداً أدنى من القدرة على تلمس جذورها في أنفسنا وفي تراثنا العام والخاص
.. بحيث نستطيع أن نضرب من أنفسنا ومن حياتنا أمثلة عما نفكر به ونحلم به ..
دون خوف ودون قمع ما دامت هذه الأبحاث والتوجهات لا تستهدف أساساً البحث عن
مغانم آنية مباشرة ويؤكد المحاضر : بأن المدخل الأفضل لتوليد هذه العقلية
النقدية الحيوية على المستوى العربي والإسلامي .. هو البحث في التراث ..
وإعادة قراءة تاريخنا بحيث لا يبقى غريباً عنا ، ولا تبقى المراجع الأفضل فيه
هي التي يكتبها ويصدرها الآخرون .
إن المطلوب هو رفع الجماهير إلى مستوى الفهم القانوني لوجودها ولتراثها
ولعالمها .. وذلك من خلال إعطائها الفرصة لمعايشة العقلية النقدية الحيوية ،
وذلك بنشرها جماهيرياً في وسائل الإعلام في مناهج التدريس . عندئذ يصبح
التراث الإسلامي الحيوي هو تراث كل الجماهير .. بل وأيضاً يصبح التراث
المسيحي بكل تنوعاته وطوائفه هو تراث الجماهير العربية الإسلامية .. فالإسلام
ليس مقطوعاً عن هذا التراث إذ أن العرب هم المجتمع الذي ولد وترعرع في هذا
التراث أولاً ، وفيه من الجوانب الحيوية المبدعة ما في الإسلام . وفيه من
سمات الشخصنة ما في الإسلام أيضاً .. وهو ليس تراث العرب والمسلمين فحسب بل
هو تراث العالم أجمع .
ويعتقد المحاضر بأن الفكرياء الحيوية بإمكانها أن تكون محرضاً لتوليد العقلية
النقدية الحيوية العربية وأنه على مستوى الحوار العربي العربي فإن المنطق
الحيوي يرى أن جزءاً من الأزمة يعود إلى أن التسميات ما زالت تتسم بطابع
تبريري .. حيث كل فريق يطلق على نفسه تسميات هي بمثابة مدائح وأوسمة ويطلق
على الآخرين تسميات هي إهانات وشتائم .. وقد أورد المحاضر عدة أمثلة على ذلك
مأخوذة من واقع التيارات المتنوعة المتعايشة .
من أجل ذلك فإن المحاضر يفترض اصطلاحات قوى " التفرد والشخصنة " كاصطلاحات
يمكن أن تسهل افتتاح الحوار العربي العربي .. بل أيضاً الحوار العربي
العالمي.. وذلك لأن الذي لا يستطيع الحوار مع نفسه لا يستطيع الحوار مع عالمه
. ولأن قوانين العالم والذات واحدة إن هذه المصطلحات ليست أوسمة ولا شتائم ..
فالتفرد ليست عملية حيوية باستمرار .. بل مرحلة في قانون الصيرورة الاجتماعية
. كما أن الشخصنة ليست عملية لا حيوية باستمرار بل مرحلة في قانون الصيرورة
الحيوية وإن كلاماً أفراداً وجماعات هو مزيج من التفرد والشخصنة وبهما معاً
نتفاعل ونتعايش . فلماذا لا نستخدمهما كتعبيرين أساسيين لتسمية الذات
والآخرين بآن واحد بحيث لا نخجل من الدفاع عن شخصيتنا الأساسية ولا داعي
للتهرب من معرفتنا كما هي طالما أنها تتحقق وفق ظروف قانونية خارجة عن
إرادتنا الفردية .
وهكذا ، إذا كان تاريخنا في بعض ظواهره يمثل خروجاً عن الأطر الشرعية أو
حوادث التشوه والمرض ، فلا ينفع معها أن ننكرها أو أن لا نشير إلى الأشياء
بمسمياتها كما هي .. وإلا فإننا لا نكون قد بدأنا الحوار ولا نكون قد نوينا
القيام بالعمل المشترك الذي يؤمن مصالح أشمل بل نكون في عملية مجاملة تبريرية
مؤقتة لينقض كل منا على الآخر في أول فرصة سانحة . والرابح في هذه المعركة
خاسر .
ويتساءل المحاضر أيضاً فيقول : إذاً لماذا لا نجري مصالحة مع أنفسنا .. مع
محيطنا.. مع تراثنا .. ونعيد اتصالنا الحيوي مع هذا التراث بوصفه تراثنا وليس
فقط تراث الكهنوت وقوى الشخصنة لماذا لا نعلنها وبوضوح أن التراث الإسلامي
الحيوي لا يخص فقط المتدينين المسلمين بل هو مصدر اعتزاز لكل العرب .. بوصفه
يضم ألمع الصفحات الحيوية في تاريخهم ؟ وكذلك بالنسبة للتراث المسيحي الحيوي
فهو تراث العرب أجمعين بل لماذا لا نوضح أن حيوية التراث الديني الذي ظهر هو
ملك للتراث الإنساني عامة كما أن التراث الحضاري للأمم والأديان الأخرى هو
تراث لكل الناس ويعبر عن تاريخهم عن إبعاد كينونتهم عن قانون وجودهم .إذا
لماذا نشعر أن هذا التراث غريب عنا عبء علينا مع أنه تراث قوى التفرد .. تراث
الحيويين .
من أجل هذا كله فإننا بحاجة إلى لغة جديدة .. لغة المنطق الحيوي ، ونحتاج إلى
عقل جديد هو العقل المتطابق مع القانون الحيوي ..
|