الفلسفة العربية تعود إلى الظهور من خلال المنطق الحيوي

الدكتور حافظ الجمالي

رئيس انحاد الكتاب العرب

          لست أدري لما يقوم طلابنا في الغرب والشرق على السواء بتقديم أطروحات ، ينالون عليها شهادة دكتوراه ، رفيعة المستوى عادة . ثم لا يعودون إليها قط ، فيما يلي من أيام حياتهم ، ولا يتذكرونها بالخير ، ولا بالشر . والعادة أن الإنسان حتى إذا لم يكتب إلا مقالاً واحداً . يلاحق الناس ، ويسألهم عما إذا اطلعوا عليه، أو سمعوا شيئاً عنه . ومن الغريب حقاً أن نقدم في باريس أو لندن ، أو هافارد، أو كمبردج , أطروحات عظيمة ، ثم تبقى هذه " في طي النسيان " أو مطروحة في زاوية ما ، من زوايا النسيان ، كما لو أن أصحابها خجلون بما كتبوا ، أو ضنينون بصنيعهم الثقافي العظيم ، على أبناء أمتهم ، لأنهم مثلاً " متخلفون " أو غير قادرين على فهم أقوال أو نظريات "رفيعة المستوى " صعبة لا تستوعبها عقولهم . وفيما أعلم ، فإنه ليس هنالك إلا أطروحتان فقط لمواطنين سوريين ، رأيت من يشير إليهما في الأوساط الثقافية العالمية ، أولهما الدكتور أمجد الطرابلسي ، حول النقد في الأدب العربي ، منذ البدية حتى القرن الخامس الهجري، والثانية للدكتور بديع الكسم ، عنوانها " فكرة البرهان في الميتا فيزياء"

****

          وفي هذه المرة أجد رسالة لضابط سابق في الجيش السوري وعندما عرفته عام 1975ـ1976 ، كان شاباً في مقتبل العمر أما الآن فإنه لا يزيد عن الثانية والأربعين عمراً ، وعندي ، مهما يقل في الرجل , أنه يوضع بسهولة في قائمة اللامعين من رجال الثقافة السوريين .

          وقد سرني جدا ان الاطروحه وجدت صدى غير مسبوق من اساتذة السوربون  حيث كتب أحد أعضاء اللجنة التي ناقشت هذه الأطروحة "ما يلفت النظر إليها بشكل صريح جداً " أذ يقول : إنه لشرف لفرنسا ... استقبال صاحبها ، بل إن أعضاء اللجنة كلهم حتى روجيه غارودي ، لم يقصّروا في الثناء عليه ، على الرغم من أن الرسالة تهاجم غارودي نفسه مهاجمة شديدة . ترى كيف يُثنى على هذا العمل ، كل هذا الثناء ، ثم لانرى من الجانب العربي من يشير اليها  الا ماندر؟؟

و الاطروحه نشرت في اربع اجزاء في باريس ـ1987 ـ.. أما عدد الصفحات فيبلغ 1271 صفحة . وبما كان يكفي أي منها لنيل شهادة الدكتوراه . وفيما أعلم فإن صاحب هذا العمل كلف بإلقاء بعض المحاضرات في أحدى جامعات باريس نفسها ، كما كلف بالإشراف على بعض الرسائل التي يقدمها طلاب عرب .

****

          ولئن انتهيت من التعريف بصاحب الرسالة ومن التنويه بعمله . فإني أنتقل الآن إلى الرسالة ، لا لأعرض صورة عنها ، ولكن لأشير إلى نقاط خاصة فيها ، إحداها تتعلق بالحافز الأساسي لهذا العمل ، والثانية بجوهر النظرية التي يضعها والثالثة بالهدف الذي يرمي إليه المؤلف من عمله هذا . وبما اتسع المجال لبضع ملاحظات أخرى ، تتعلق بأسلوب الكتابة ، وطريقة العرض ، ومزاج المؤلف .

أما حول النقطة الأولى ، فلا أجد خيراً من فقرة وردت في مقدمة المؤلف ، لكي أقدم تعريفاً للحافز الذي جعله يقدم على عمله هذا . وإليكم الآن هذا النص ، وهو تساؤل مشروع . وأظن أن وراء أية فلسفة في هذه الدنيا ، تساؤلاً ما ، لا توجد ، أو لم تكن موجودة بدونه .         ويقول المؤلف :                                                                              " لماذا نحن في وضع منحط ؟ لماذا العالم من حولنا ، وبخاصة في الغرب الرأسمالي ، والاشتراكي ، متقدم علينا ؟ ولما استطاع العرب والمسلمون في الماضي تحقيق حضارة كبرى فريدة ؟ كيف يمكننا أن نستعيد تلك المبادرة الحضارية ؟ ولماذا تخفق معظم جهودنا ونتأخر في كل المجالات ؟ وهل العرب والمسلمون عقيمون ؟ وهل يعود ذلك إلى أن العرب يفتقرون بتكوينهم إلى القدرة الإبداعية ؟ وهل كل الظواهر الإبداعية في تاريخنا جاءتنا من الخارج؟ كما يدعي البعض . ويجعلها قضيته وأطروحته ، التي تجد من يؤيدها ويشجعها ويمولها ‍‌‍‍؟‍ أم أن العرب كغيرهم من الناس . وعلى مر التاريخ ، يمكنهم أن يتقدموا ، ويمكنهم أن يتدهورا بحسب أعمالهم ؟

لا ريب إذاً أن الحافز قومي بالدرجة الأولى ، أي أنه يصدر عن وجدان فردي صيغ على صورة الوجدان القومي ، وكما هي مع مطالبه وحاجاته ، ولاسيما تلك الأكثر‍ إلحاحاً ، أي مع الشعور العام بأن السبب الأول في كوارثنا ، ومشكلاتنا ، وتبعيتنا ، ووضعنا ، وهشاشة بنيتنا الوطنية ، والقومية والثقافية والتقنية ، إنما هو تخلفنا على مختلف المستويات . ويخيل إلى أن هذا الحافز كان ينبغي أن يكتمل ، بسؤال آخر ، أجد الآن أنه الأشد إلحاحاً . إذ ما فتئ العرب منذ قرنين تقريباً " والسلطة العثمانية ، وحليفتها تركيا الكمالية بعدها " يعملون للقضاء على التخلف ، ويضعون ذلك في المقام الأول من جهودهم ، ويخططون بألف صورة وصورة للوصول إلى وضع آخر لا يقال معه أنهم في ذيل المتخلفين ومع ذلك فإنهم لا يلقون إلا الإحباط ، وعلى مساحة اثنين وعشرون  دولة عربية ، غنية تارة أو فقيرة تارة أخرى أو غنية جداً في بعض الأحيان . وهذا الحافز هو الذي ناله التصعيد والتسامي وانقلبت إلى فلسفة ، لم يكن حافزها الأول البحث عن كنه الوجود ، ولا عن مبدأ أول للأخلاق . وألاحظ ولأول مرة أن عملية التصعيد هذه كانت ناجحة فعلاً ، لا لأنها طوت المشكلة الأساسية ـ أي التخلف ـ في الإطار الأكثر شمولاً ، أي الفلسفة ، بل لأنها طوت مشكلات كثيرة عربية وعالمية بين جناحيها . وأحب من هذه الناحية أن أشير بالدرجة الأولى إلى هذا الإطلال على النظريات الفلسفية الكبرى ، ونقدها بما تستحق ولاسيما الفلسفة الماركسية ،

****

والآن ما هي هذه المبادئ التي سما إليها الدكتور النقري . بدءاً من التفكير في القضايا العربية القومية ؟ إنها خمسة :

أولها يقرر أن الكينونة شكل. وأن كل ما في الكون ليس إلا صورة وجود ، من غير أن يكون هنالك  أي وجود جوهري عيني ثابت مستقل في الكون، بدءً من أصغر ذرة وانتهاءً بوجود الإنسان . بما له من عقل ووجدان وبكل ما يلاحظ فيه من تقيد . فلا مادة ولا روح ، ولا كتلة ولا طاقة . بل إن هنالك صور وجود ذلك أن العلم الحديث أثبت أن المادة تتحول إلى طاقة . والطاقة تتحول إلى كتلة . وأن عملية التحول هذه لا تنقطع أبداً . وأن اكتشاف الفيروسات ، وتبضع الكثير من المواد العضوية . قد أزال الهوة بين الجماد والعضويات . ولم يعد العلم ينظر لظاهرة التعضي كظاهرة متميزية جوهرياً عن الجماد . وإذاً فليس في الكون جوهر عيني ثابت مستقل . بل هنالك أشكال كونية متباينة بتباين معماريتها (ص171 الجزء الأول )

     اما المبدأ الثاني فهو الذي يقرر أن الكينونة حركة ذات أقسام متعددة بتعدد أبعاد الكينونة ، وذلك كتعبير عن فرق الجهد بين المنسوب الحيوي لإنسان كائن وبين المنسوب الحيوي لنسق الحياة وهو فرق يعمل لصالح نسق الحياة باستمرار كون هذه تمثل كلية حية لا نهائية الحيوية ، تتجلى في قدرتها على الخلق والتجدد أي أنساق تكون مستمرة حية . ولما كانت الكينونة حركة بدلالة فرق الجهد الحيوي . فهذا يعني أنه ليس للكون محرك من خارجه . بل هو المتحرك والمحرك في آن واحد ، وكل كائن يملك في آن واحد صفة المحرك ، وفي آن آخر صفة المتحرك دون أن يكون المحرك بذاته كياناً جوهرياً ، متميزاً من الحركة ( ص 69 ج 1 )

     ويأتي المبدأ الثالث فيقرر أن الكينونة صيرورة حيوية . وهنا نجد قفزة فلسفية تضاف إلى المبدأ كأنها جزء مضمر فيه . ذلك أنه أن أنساق التكون يؤثر بعضها في بعض . وفقاً للضرورة الحيوية التي تشحن تفاعلها الكلي وتغذيه باتجاه التجلي . في وقائع وظواهر كونية شخصية تدعم باستمرار التفاعل الكلي الحيوي لأنساق وجودها . وتدعم استمرار كليتها الحيوية . حية متجددة باستمرار . ( ص 71 ج1 )

     أما المبدأ الرابع : فإنه يقرر أن الكينونة صيرورة احتمالية ، بدلالة التفاعل الكلي الحيوي لأنساقها . وهذا يعني أن حيوية الكينونة ليست تحصيل حاصل . بل هي رهن بقدرتها على أنساق التفاعل الكل الحيوي لأنساق تكونها مع نسق الحياة... ونسق الحياة هذا هو الذي يسميه الدكتور النقري باسم إرادة الحياة المقابلة لإرادة القصور والتي تهدد بإعطاء الشحن الحيوي لاستمرار التفاعل الكلي لأنساق الكينونة .

     وأخيراً نجد أنفسنا أمام المبدأ الخامس القائل بأن الكينونة صيرورة نسبية . بمعنى أن صيرورة " الكينونة " ليست محدودة الصيغ والقيم الحيوية تبلغها حتماً وبصورة محدودة سلفاً . لا بديل لها بل إن هنالك صيغاً وبدائل متعددة بتعدد أبجدية صيغ التعبير عن حيوية التفاعل الكوني . ( ص76 ج1 )

****

ولئن أتينا على ذكر المبادئ الخمسة التي تقوم عليها هذه الفلسفة التي لا تطمع بمناقشتها . في مقال فإنه مجرد التعريف " بالفلسفة الحيوية " التي صدرت عن عمل جماعي لرفاق كثيرون عملوا طوال سنين كثيرة ، لإنصاف هذا العمل الفلسفي . وقاسوا وعانوا الكثير من أجله فذلك لكي نقدم لمحة مبسطة جداً عن هذا العمل ولنقول : ما من فهم ممكن لهذه الفلسفة إلا بقراءتها عن كتابها الأصلي . والعودة إليه باستمرار ولا شك أنه سيثير نقاشاً طويلاً لو أتيحت فرصة مات . لوضع الكتاب بين يدي القراء .

****

وربما لا نكون قد أنصفنا هذه الدراسة . إذا اكتفينا بالقول أنها فلسفة من الفلسفات . تستعير مبادئها أحياناً . حتى من عدوتها الماركسية . وكلن بإطار صياغة جديدة نسبياً . بل إن الأعماق المحركة لهذه الفلسفة هي أولاً وأخيراً محاولة جدية للقفز من واقع المتخلف , والوصول إلى مستوى أعلى منه . ثم أعلى فأعلى لقلب القصور الحيوي..إلى حركة مشحونة أبداً يجب تنييره بطاقة جديدة وكينونة أعلى من كينونته

 

وكما أن هذه الفلسفة جماعية الإنشاء والتكوين . فإنها ستكون كذلك جماعية التنفيذ ، أو قل أنها مدرسة جديدة تريد كسب المتطوعين عن قناعة ، للقيام بعمل أصيل لخدمة التطلعات العربية القومية . ونحن نؤمن أـن فيها من الغني والقوة واليقين ما يؤهلها لتحقيق شعارها الحيوي :اراده الحياة الحريه

 

 

حافظ الجمالي محمود استانبولي محمد الراشد جلال فاروق الشريف جودت سعيد روجيه غارودي
بيير تييه رنيه شيرر اوليفييه كاريه مفيد ابو مراد عادل العوا وهيب الغانم
اتصل بنا من نحن جميع الحقوق محفوظة لمدرسة دمشق المنطق الحيوي 1967 - 2004